26 رجب ذكرى وفاة أبي طالب (عليه السلام) كفيل النبي وحامي الإسلام

يا شاهدَ الخلقِ عليَّ فاشهدِ *** إني عــلى دينِ النبيِّ محمدِ
***************************************
ألا أن خيرَ الناسِ أمّاً ووالداً *** إذا عُدَّ ساداتُ البريةِ أحمدُ
نبيُّ إلهي والكريمُ بأصلهِ *** وأخلاقِه وهو الرشيدُ المؤيّدُ
حزيمٌ على جلّى الأمورِ كأنهُ *** شهابٌ بكفّي قابسٍ يتوقّدُ
***************************************
ألا أبلغا عني على ذاتِ بينها *** لؤياً وخُصّا من لؤيّ بني كعبِ
ألمْ تعلموا إنّا وجدنا محمداً *** رسولاً كموسى خُطّ في أولِ الكُتبِ
وأن عليه في العبادِ محبّةٌ *** ولا حيفَ فيمن خصّه اللهُ بالحبِّ
***************************************
وإن كان أحمدُ قد جاءهم *** بحقٍ ولم يأتهم بالكَذِبْ

بِمَ يستدل المؤرخ أو المحقق على إيمان شخص بالله وبرسوله وبالإسلام أكثر قوة من هذه الأشعار؟ وهل يستطيع أحد (جهابذة) المُقتاتين على الموائد الأموية و(عباقرة) المتزلفين للنواصب والوهابية من وعاظ السلاطين وفقهاء الطواغيت أن يثبت لنا فيها وفي غيرها من ديوان أبي طالب وجهاً للتأويل يتعارض مع المعنى الواضح كوضوح الشمس في مضمونها لا تدركه عقولنا؟ إذن فليأتِ به لكي يستدل على صحة الحديث الذي وضعه أبو هريرة لمعاوية بأن: (أبا طالب في ضحضاح من نار)؟!! وإلا فليضرب به عرض الحائط.

وهل تحتاج هذه الأشعار إلى تأويل؟ أم هل يراود أي شخص مهما كانت ثقافته أدنى شك في عميق إيمان قائلها بما جاء به الرسول محمد؟ فلو كانت هذه الأبيات نصاً مترجماً لما فقدت معناها فكيف وهي بلسان عربي مبين.

حاولت أن استقرأ ديوان أبي طالب قراءة تاريخية بعيداً عن أقاويل المرتزقة والمأجورين الذين باعوا دينهم وضمائرهم لبني أمية ودسّوا الأحاديث الموضوعة للنيل من هذه الشخصية العظيمة التي كان لها دور كبير وعظيم في الدفاع عن الإسلام ونبيه الكريم, ولكنني وجدت أنه لا بد أن لي بل لكل من يتناول شخصية أو حدثا في تاريخنا الإسلامي في بحث أو دراسة أن ينقّي صفحات البحث أو الدراسة من الفيروسات الأموية والشوائب والطفيليات الوهابية التي تحاول تشويه وتزييف الحقائق التاريخية وأن يكشف بالدلائل والبراهين العقلية والنقلية والمنطقية جريمتهم في وضع تلك الأحاديث المسمومة التي شوّهت صفحات التاريخ الإسلامي.

ولنا أن نسأل ماذا لو كان أحد (سلفهم) قد قال هذه الديوان أو بعضه؟ بالتأكيد سترى الدراسات والبحوث تُكتب وتُجرى الحوارات والنقاشات عبر الفضائيات حول هذا الموضوع ويستضاف فيها فطاحل اللغويين والباحثين للحديث عن فضائل ذلك (السلف) الذي سيرتقي إلى مصاف الملائكة والأنبياء ولكن ....

إنهم يحاولون بشتى الوسائل تهميش وطمس التاريخ العظيم لشخصيات إسلامية عظيمة كشخصية أبي طالب وتزويق الماضي الوحشي والمخزي لـ (سلفهم) وخلق التبريرات غير المنطقية واعتماد الروايات الموضوعة لتنزيههم عما ارتكبوه من جرائم بحق الإسلام والمسلمين حتى جعلوا ألد أعداء الإسلام من أمثال أبي سفيان ومعاوية ومن لف لفهم من (الصحابة الأجلاء) !!!! ولو وجدوا لهؤلاء بيتاً واحداً مثل أبيات أبي طالب في نصرته للرسول لجعلوه أول المسلمين وبطل الإسلام بلا منازع ولكنهم كما قال الشاعر:
وعينُ الرضا عن كل سوءٍ كليلةٌ *** ولكن عينَ السوءِ تُبدي المسَاويا

ورغم كل تلك المحاولات فإنهم لم ولن يستطيعوا إخفاء الشمس فنور شيخ البطحاء وسيدها هو من نور الإسلام الذي عم وانتشر رغم أنوف الكافرين (ويأبى الله إلا ان يتم نوره ولو كره الكافرون) وكما قال المتنبي:
وإذا استطالَ الشيءُ قامَ بنفسهِ *** وصفاءُ ضوءِ الشمسِ يذهبُ باطلا

أجل أن من ينكر أيمان أبي طالب كمن ينكر ضوء الشمس: (فمن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا).

فأي قول أروع من قول أبي طالب في توحيد الله وتنزيهه عن الشرك:
مليكُ الناسِ ليـس له شريكٌ *** هو الوهّابُ والمبدي المعيدُ
ومن تحتَ السـماءِ له بحقٍ *** ومن فوقَ السمـــاءِ له عبيدُ

وهل يقول مثل هذا القول من لم يؤمن بالله؟!!!!

أم هل يحذّرُ من يشرك بالله قومه من مغبة كفرهم وينذرهم بنزول العذاب من الله كما نزل على الأمم السابقة التي كذبت الأنبياء ويروي لهم أخبارها قبل نزولها في القرآن كما في قوله:
أفيقوا بني غالبٍ وانتهوا *** عن البغي في بعضِ ذا المنطقِ
وإلّا فإني إذاً خائفٌ *** بوائقَ في داركم تلتقي
تكونُ لغيركم عبرةً *** وربِّ المغاربِ والمشرقِ
أما نال من كان من قبلكم *** ثمودٌ وعادٌ فمن ذا بقي
فحلَّ عليهم بها سخطه *** من الله في ضربةِ الأزرقِ
غداةَ أتتهم بها صرصرٌ *** وناقة ذي العرش إذ تستقي
غداة يعضُّ بعرقوبها *** حسماً من الهندِ ذا رونقِ

أم هل يكذب برسالة النبي (ص) من يقول فيه:
لقد أكرمَ اللهُ النبيّ محمداً *** فأكرم خلقِ اللهِ في الناسِ أحمدُ
وشقَّ له من إسمه ليجلّه *** فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمدُ

أم كيف يجحد برسالته وهو يفضله على أولاده:
إن الأمينَ محمدٌ في قومهِ *** عندي يفوقُ منـازلَ الأولادِ
لما تعلّقَ بالزمامِ ضممتُه *** والعيسُ قد عُلّقنَ بالأزوادِ
فارفضَّ من عينيَّ دمعٌ ذارفٌ *** مثلَ الجُمانِ مفرّقٌ ببدادِ
راعيتُ فيه قرابةً موصولةً *** وحفظتُ فيه وصيةَ الأجدادِ

وهل يُعقل أن يرفض إنسان عاقل دعوة النبوة وهو يرى الدلائل الباهرة عليها كما في قوله:
ظهرت دلائلُ نورهِ فتزلزلت *** منها البسيطةُ وازدهت أيامُ
وهوت عروشُ الكفرِ عند ظهورهِ *** وبسيفهِ سيشيّدُ الاسلامُ
وأتاهم أمر عظيمٌ فادحٌ *** وتساقطت من حولهِ الاصنامُ
صلى عليكَ الله خلّاق الورى *** ما أعقب الصبحُ المضيءُ ظلامُ

وكان أبو طالب شاهداً على آية رسول الله الباهرة في أمر الصحيفة التي كتبتها قريش وقاطعت فيها بني هاشم فأكلتها الأرضة وفيها يقول:
وقد كان من أمر الصحيفةِ عبرةُ *** متى ما يخبر غـائب القوم يعجبِ
محا الله منها كفرهم وعقوقهم *** وما نطقوا مـن ناطقِ الحقِ معربِ
فأصبحَ ما قالوه في الأمرِ باطلاً *** ومن يختلق ما ليس في الحقِ يكذبِ
وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقاً *** على سخطٍ من قومنا غير متعبِ

فلولا مواقف أبي طالب في حماية النبي (ص) والمسلمين لما قامت للإسلام قائمة وإن فضله على كل مسلم ومسلمة لذلك قال ابن أبي الحديد: ولم أستجز أن أقعد عن تعظيم أبي طالب، فإني أعلم أنه لولاه لما قامت للإسلام دعامة، وأعلم أن حقه واجب على كل مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، فكتبت:
فلولا أبو طالبٍ وابنه *** لما مثُلَ الدينُ شخصاً فقاما
فهذا بمكةَ آوى وحامى *** وهذا بيثربَ شامَ الحساما
تكفّل عبدُ منــــــــافٍ بأمـــــــــــــــرٍ وأودى وكان عليٌ تمـــــــاما
فللهِ ذا فاتحاً للهدى *** وللهِ ذا للمعالي ختاما
وما ضرّ مجدَ أبي طالبٍ *** جهولٌ لغى أو بصيرٌ تعامى
كما لا يضرُّ إيـابَ الصبـــــــــــــــاحِ من ظنَّ ضوءَ النهارِ ظلاما

سور الإسلام
سور الإسلام المتين وحصن الرسول المنيع, وقاهما بنفسه وولده وكل ما يملك من كيد الكافرين وخطر المشركين, كفل محمداً (ص) صغيراً وآمن به ونصره على مشركي قريش وكان وصي أبيه سيد مكة عبد المطلب في كفالة النبي حيث عهد إليه تربيته ورعايته بقوله:
أوصيكَ يا عبد مناف بعدي *** بواحدٍ بعـد أبيهِ فردِ
فارقه وهو ضجـيعُ المهدِ *** فكنتُ كالأمِ له في الوجدِ

فقام أبو طالب بمهمته على أكمل وأحسن وجه ولم يترك نصرة الرسول حتى فارق الحياة, (وكان من شدة حرصه على النبي (ص) يُضجع ابنه علياً مكانه وقاية له بولده وخوفاً عليه فقال له علي (ع) يوماً: يا أبه إني لمقتول؟ فقال له أبو طالب:
اصبرن يا بني فالصبرُ أحجى *** كل حيٍّ مصيرُه لشعوبِ
قد بذلناكَ والبلاءُ شديدٌ *** لفداءِ الحبيبِ وابن الحبيبِ
لفداءِ الأغـــــرِّ ذي الحسبِ الثــــــــــــــاقبِ والباعِ والكريمِ النجيبِ
إن تصبكَ المنونُ فالنبلُ تترى *** فمصيبٌ منها وغيرُ مصيبِ
كل حيٍّ وإن تملّى بعمرٍ *** آخذ من مذاقِها بنصيبِ (1)

وكان ذلك السؤال من علي (ع) هو لأجل أن يؤكد لأبيه إنه على نهجه في نصرة الرسول والذود عنه والتضحية دونه كما جاء في جوابه لأبيه بقوله: 
أتأمرني بالصبرِ في نصرِ أحمدٍ *** وواللهِ مـا قلتُ الذي قلتُ جازعا
ولكنني أحببتُ أن ترَ نصرتي *** وأعلمُ أني لم أزل لكَ طائعا
سأسعى لوجـهِ اللهِ في نصرِ أحمدٍ *** نبيَّ الهدى المحمود طفلاً ويافعا

الشيخ
اجتمعت في أبي طالب من الخصال النادرة والفضائل العظيمة ما لم تجتمع في رجل في كل قريش والعرب, فقد كان شخصية فذّة يتمتع بصفات نبيلة تزعّم بها قريش وسادها, فكان عالماً حكيماً سديد الرأي كريم الصفات عظيم المفاخر جميل المأثر شجاعاً يهرع إليه الملهوفون في المحن والشدائد.
ويدلنا قول أخيه العباس بن عبد المطلب على مكانته العظيمة في قريش حينما قال: ننتظر رأي الشيخ أبي طالب فنحن في ترقب ومتى أستظهرنا رأيه تابعناه، وما كان لأي منا أن يتخلّف أبداً.

وكانت قريش تلقبه بـ (الشيخ) لعلو مقامه وسمو منزلته عندها, وشجاعته التي لم يدانيه أحد بها كما يدلنا على ذلك قول رسول الله (ص): رحم الله عمي أبا طالب فلو ولد الناس كلهم لولدوا شجعانا.

ناصر أبو طالب الدعوة المحمدية الشريفة وآزرها وذب عنها ولم يصل إلى النبي (ص) مكروه حتى مات أبو طالب فنزل جبرائيل على النبي (ص) وقال له: (أخرج من مكة فقد مات ناصرك) (2)

فكان أبو طالب طوال حياته المجاهد بيده ولسانه في سبيل الله ولم تقتصر نصرته للرسول بردع مشركي قريش عن إلحاق الأذى بالنبي والمسلمين, بل ناصر الدعوة بيده ولسانه وشعره الذي يدلنا على مدى إيمانه العميق بالإسلام وبما جاء به النبي محمد (ص) من ربه.

وكان (رض) يتوسّم في ابن اخيه (ص) النبوة قبل أن يُبعث, (فإن في شعره هذا دليل على أنه كان يعرف بنبوة النبي (ص) قبل أن يبعث لما شاهده من أحواله...ومعرفة أبي طالب بنبوته (ص) جاءت في كثير من الأخبار زيادة على شعره). (3)

وعندما شاءت إرادة الله ان يجهر رسول الله بنبوته ويعلن عن بعثته ورسالته ولا سيما بعد نزول الآية الكريمة (وأنذر عشيرتك الاقربين) لم ير رسول الله بداً من أن يفاتح عمه أبا طالب في الأمر ويطلعه على ما هو مقدم عليه, فهو موضع ثقته ومحط أسراره وهو أجل إنسان يمكن أن يعتمد (ص) عليه لما يراه من رأيه السديد.

موقف أبي طالب من الدعوة الشريفة
عندما عرض النبي (ص) أمر الدعوة على أبي طالب قال: بأبي أنت وأمي يا ابن أخي، مُر تُطع واحكم أنفذ انشاء الله.
ثم طلب (ص) منه إحضار أربعين رجلاً من بني هاشم وعرض عليهم الإيمان بنبوته (ص) ولما رأى أبو طالب أنه لم يستجب لدعوة النبي من الحاضرين غيره وغير ابنه علي (ع) ورأى إحجام القوم ووجوههم قال: يا محمد ما أحب إلينا معاونتك وأقبالنا لنصيحتك وأشد تصديقنا لحديثك وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون وأنا واحد منهم فلا أزال أمنعك وأحوطك فأمض لما أمرت به. ثم قال:
والله لن يصلوا إليكَ بجمعهم *** حتى أوسّـدَ في الترابِ دفينا
فاصدعْ بأمركَ ما عليكَ غضاضةٌ *** وابشر بذاكَ وقرَّ منكَ عيونا
ودعوتني وزعمتَ إنكَ ناصحي *** ولقد صدقتَ وكنتَ ثمَّ أمينا
وعرضتَ ديناً قد علمتُ بأنه *** من خيرِ أديانِ البريةِ دينا

ولم تقتصر نصرة أبي طالب للنبي على نفسه بل أنه كان يوصي ولده علي (ع) باتباع النبي ومؤازرته فمن ذلك قوله:
أن الوثيقةَ في لزومِ محمدٍ *** فاشدُد بصحبتهِ عليُّ يديكا

أجل إنها الحقيقة التي يحملها هذا المؤمن المجاهد الذي فدى الرسول بنفسه وولده وآثر مضايقة قريش له ولقومه وحصارهم في الشعب وتحمّل الجوع والعطش على تسليم النبي (ص) والتخلي عنه.

وبعد أن أعلن رسول الله (ص) دعوته بدأت قريش بنصب العداوة له وصار أبو طالب يخاف عليه منهم, وذات يوم يفتقد أبو طالب محمداً فيضطرب لذلك ويأمر فتيان بني هاشم بالتسلح والخروج إلى نادي قريش فيقف كل واحد منهم على رأس رئيس وزعيم من العرب وقريش حتى يعود إليهم النبي (ص) فأن جاءهم محمد فذاك وألا عمدوا إلى الزعماء فقتلوهم عن آخرهم فيأتي رسول الله (ص) فيأخذ أبو طالب بيده ويشرف على الحضور ثم يأمر فتيانه أن يخرجوا ما أخفوه من السيوف ليرهبوا عدو الله وعدو رسوله ثم أنشأ يقول:
ألا أبلغْ قريشاً حيثُ حلّت *** وكل سرائرٍ منها غرورُ
فإني والضوابحُ عادياتٍ *** وما تتلو السفــاسرةُ الشهورُ
فلستُ بقاطعٍ رحمي وولدي *** ولو جرّتْ مظالمُها الجرورُ
أنا لمحمدٍ راعٍ حفيظٍ *** وود الصدرِ مني والضميرُ
أيامرُ جمعهم أفناءُ فهرٍ *** لقتلِ محمدٍ والأمرُ زورُ
فلا وأبيكَ لا ظفرتْ قريشٌ *** ولا لقيتْ رشاداً إذ تُشيرُ
بنيَّ أخي ونوطُ القلبِ مـني *** وأبيضُ ماؤه غَدِقٌ كثيرُ
ويشربُ بعده الولدانُ ريّاً *** وأحمدُ قد تضمّنه القبورُ
أيا ابنَ الأنفِ أنف بني قصي *** كأنَ جبينكَ القمرُ المنيرُ
ويخرج من بينهم مرفوع الرأس.

الغضبة الهاشمية
في شدة أيام الحصار حيث ألمت بالمسلمين الآلام والأحزان وطغى عليهم الضعف من شدة الجوع خرج أبو طالب متقلداً سيفه مُستأسداً مُغضباً وحفّ به بعض أشباله من بني عبد المطلب ودخل البيت الحرام وقد هال الناس استبساله فصاح بهم:
ترجّونَ منّا خطةً دون نيلِها *** ضرابٌ وطعنٌ بالوشيجِ المقوّمِ
ترجّونَ أن نسخي بقتلِ محمدٍ *** ولم تختضب سمرُ العوالي من الدمِ
كذبتم وبيتَ اللهِ حتى تعرفوا *** جماجم تُلقى بالحطيمِ وزمزمِ
وتقطعُ أرحامٌ وتَنسى خليلةٌ *** خليلاً ويَفشى محرمٌ بعد محرمِ
وظلمُ نبيِّ جاء يدعو إلى الهدى *** وأمرٌ أتى من عند ذي العرشِ قيّمِ
هم الأسْدُ أسدُ الزارتين إذا غدت *** على حنقٍ لم يخش إعلام معلمِ
فيا لبني فهرٍ أفيقوا ولم نقم *** نوائحَ قتلى تدّعي بالتندمِ
على ما مضى من بغيكم وعقوقكم *** وغشيانكم من أمرنا كل مأثمِ
فلا تحسبونا مسلميه ومثله *** إذا كان في قومٍ فليسَ بمسْلَمِ
فهذي معاذيرٌ وتقدمةٌ لكم *** لكي لا تكون الحربُ قبل التقدّمِ

ثم دخل الكعبة وتعلّق بها فدعا الله عز وجل وسأله النصر والتأييد للإسلام ونبيه ثم قال مخاطباً قريش:
وما ذنبُ من يدعو إلى اللهِ وحده *** ودينٍ قويمٍ أهلُه غير خيّبِ
وقد جرّبوا فيما مضى غبَّ أمرِهم *** وما عالمٌ أمراً كمن لم يجرّبِ
فلا تحسبونا مسلمين محمداً *** لذي غربةٍ منّا ومن متقرّبِ
ستمنعه منّا يدٌ هاشميةٌ *** فمركبُها في الناسِ من خيرِ مركبِ

دعوة القربى
وكان أبو طالب لا ينفك يدعو أقرباءه إلى الإيمان بالنبي (ص) ومؤازرته في دعوته فكان له دور كبير في إسلام أخيه الحمزة الذي كان يخضع لزعامة أخيه الكبير وقد أجابه حينما طلب منه ذلك وكانت دعوة أبي طالب مضاعفة بقالب الشعر:
فصبراً أبا يَعلى على دينِ أحمدٍ *** وأن مُظهراً للدينِ وفِّقتَ صابرا
وحطَّ من أتى بالحقِ من عند ربهِ *** بصدقٍ وعزمٍ لا تكن حمزُ كافرا
فقد سرّني إذ قلتَ: إنكَ مؤمنٌ *** فكنْ لرسولِ اللهِ في اللهِ ناصرا
ونادِ قريشاً بالذي قد أتيته *** جهاراً وقلْ: ما كانَ أحمدُ ساحرا

ويوصيه ويحثه على نصرة محمد:
إعلم أبا أروى بأنكَ ماجدٌ *** من صلبِ شيبةَ فانصرنَ محمدا
لله درّكَ إن عرفتَ مكانه *** في قومهِ ووهـبتَ منكَ له اليدا

كما يوصي طالباً ابنه في نصرة الرسول:
أبنيَّ طالبُ إن شيخَكَ ناصحٌ *** فيما يقولُ مسددٌّ لكَ راتقُ
فاضربْ بسيفِكَ من أرادَ مساءَة *** حتى تكونَ له المنية ذائقُ
هذا رجائي فيكَ بعد منيتي *** لا زلتُ فيكَ بكلِ رُشدٍ واثقُ
فاعضدْ قواهُ يا بنيَّ وكُن له *** أنّى يجدكَ لا محالةَ لاحقُ
كهلاً أرددُّ حسرةً لفراقهِ *** إذ لا أراهُ وقد تطاولَ باسقُ
أترى أراهُ واللواءُ أمامَه *** وعليٌّ ابني للواءِ معانقُ
أتراهُ يشفـعُ لي ويرحمُ عبرتي *** هيهاتَ إني لا محالةَ زاهقُ

وكما فرح بإسلام الحمزة فأنه يشجع ولديه علياً وجعفراً على نصرة النبي (ص) ومعاضدته والذب عنه:
إن علياً وجعفراً ثقتي *** عند احتدامِ الأمورِ والكربِ
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخـي لأمي من بينهم وأبي
والله لا أخذلُ النبي ولا *** يخذله من بنيّ ذو حسبِ

فكان له من الولدين البارين ما يبهجه ويسرّه فكان علي فتى الإسلام وبطله ووصي رسوله, كما كان جعفر من أبطال الإسلام هاجر في الله إلى الحبشة مع المسلمين وهم بقيادته, ودافع عن النبي باللسان واليد حتى استشهد في معركة مؤتة.

مع أبي لهب
وكان أبو طالب يأمل حتى من أخيه أبي لهب أن ينحاز إلى جهة النبي (ص) وقافلته الخيرة فوجه إليه رسالة أكثر فيها الإرشاد والنصح وختمها بهذه الأبيات:
وإن امرأ أبو عتيبة عــمُّه *** لفي روضةٍ ما إن يسامَ المظالما
فلا تقبلنّ الدهر ما عشت خطةً *** تسبُّ بها ما إن هبطتَ المواسما
أقولُ له: بل أين منه نصيحتي؟ *** أبا عتبة ثبّت سوادكَ قائما
وولِ سبيلَ العجزِ غيركَ منهم *** فأنكَ لم تُخلق على العجزِ دائماً

وفيها يستثيره للوقوف إلى جانب بني هاشم ضد كفار قريش:
وحارب فإن الحربَ نَصفٌ ولن ترى *** أخا الحربِ يُعطي الخسفَ حتى يسالما
جزى اللهُ عنا عبد شمسٍ ونوفلاً *** وتيماً ومخزوماً عقوقاً وآثما
بتفريقهم من بعد ودٍ وإلفةٍ *** جماعتنا كيما ينالوا المحارما
كذبتم وبيتِ اللهِ نبزى محمداً *** ولما تروا يوماً لدى الشعبِ قائما

ورغم ان أبا لهب لم يستجب لنصائح أخيه إلا أن أبا طالب ظل يقدم له النصح والإرشاد باتباع دين النبي (ص) ومن ذلك قوله:
عجبتُ لحلمٍ يا ابنَ شيبةَ عازبٌ *** وأحلامُ أقوامٍ لديكَ سخافِ
يقولونَ: شايعْ من أرادَ محمداً *** ظلمٍ, وقُمْ في أمرهِ بخلافِ
أضاميمُ إمّا حاسدٌ ذو خـيانةٍ *** وإمّا قريبٌ منكَ غيرُ مُصافِ
فلا تركبنّ الدهرَ منكَ ذمـامةً *** وأنتَ امرؤٌ من خيرِ عبدِ مُنافِ
ولا تتركنه ما حييتَ لمعــظمٍ *** وكُنْ رجلاً ذا نجدةٍ وعفافِ
يذودُ العِدا عن ذروةٍ هاشميةٍ *** إلافهمُ في الناسِ خيرُ إلافِ
فإنّ له قُربى إليكَ قريبةٌ *** وليس بذي حِلفٍ ولا بمُضافِ
ولكنه من هاشمٍ ذو صميمِها *** إلى أبحرٍ فوقَ البحورِ طوافِ
وزاحمْ جميعَ الناسِ عنه وكُنْ له *** وزيراً على الأعداءِ غـيرُ مُجافِ
وإن غضبتْ منه قريشٌ فقلْ لها: *** بني عمِنا ما قومُـكمْ بِضِعافِ
وما بالكم تخشونَ منه ظلامةً *** وما بالُ أحقادٍ هناكَ خَوَافِ
فما قومُنا بالقومِ يغشونَ ظلمَنا *** وما نحنُ فيما ساءَهم بخِفَافِ
ولكننا أهلُ الحفائظِ والنُهى *** وعزّ ببطحاءِ المشاعرِ وافِ

مواجهة قريش
لمّا بلغ أبا طالب تعريض طائفة من لوي بن كعب بالنبي (ص) وإنهم ينالون منه (ص) ويخدشون ببعثته قال يخاطب بني لؤي في أبيات يحذّرهم فيها من مغّبة كفرهم بما جاء به محمد من الهداية, أو أن يتعرّضوا لمحمد بسوء فيقول:
أفيقوا أفيقوا قبل أن يُحفرَ الثرى *** ويصبحُ من لم يجنِ ذنباً كذي الذنبِ
ولا تتبعوا أمرَ الوشاةِ وتقطعوا *** أواصرَنا بعد المودّةِ والقربِ
وتستجلبوا حرباً عواناً وربّما *** أمرّ على من ذاقه جلبَ الحربِ

ويقول في تمسّكه بموقفه الذي لا ينثني في حماية محمد ونصرته:
فلا والذي يُحدي له آلُ مريمٍ *** طليحاً بجنبي نخلةٍ فـالمُحصَبِ
يميناً صدقنا الله فيها ولم نكن *** لنحلفَ بطلاً بالعقيقِ المحجبِ
نفارقه حتى نُصرّعَ حوله *** وما بالُ تكذيبِ النبيّ المقرّبِ
فيا قومنا لا تظلمونا فإننا *** متى ما نخف ظلمَ العشيرةِ نغضبِ

ويقطع عليهم أمراً وهو أنه ليس بتارك محمداً حتى يموت دونه:
فلسنا وربّ البيتِ نسلمُ أحمداً *** لعزاء من عضّ الزمانِ ولا أربِ

أما إذا لم ينتهوا عن أذاهم للنبي فبنو هاشم هم فرسان الحرب وأبطال الوغى ولا يملون الحرب حتى تملهم:
أليسَ أبونا هاشمٌ شدّ أزرَه *** وأوصى بنيه بالطعانِ وبالضربِ
ولسنا نملُّ الحربَ حتى تملنا *** ولا تشتكي ما قد ينوبُ من النكبِ

ولما سمع أبو طالب أن أبا جهل قد أسمع رسول الله (ص) كلمات نابية ونال من مقام النبوة وأن رسول الله تألم وتأثر لذلك قام من مجلسه وأهان أبا جهل وقال يخاطب الرسول (ص) أمام الجماهير من قريش:
لا يمنعنكَ من حقٍ تقومُ به *** أيدٍ تصولُ ولا سلقٍ بأصواتِ
فأنّ كفّكَ كفي إن أصبتَ بها *** ودون نفسكَ نفسي في المُلماتِ

الملحمة اللامية
هذه اللامية الملحمية الشهيرة لأبي طالب هي من عيون الشعر العربي تبلغ (111) بيتاً قال عنها ابن جني: إنها أبلغ من المعلقات. وقد ضمّنها حادثة استسقائه حينما لاذ الناس به وقد أمسكت السماء فخرج مستصحباً النبي (ص) وتوسّل برسول الله فهطل المطر فذكر هذه الحادثة في لاميته فقال:
وأبيضُ يستسقى الغمامُ بوجههِ *** ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ
تلوذُ به الهلّاكُ من آلِ هاشمٍ *** فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ

ومطلع هذه القصيدة هو:
خليليَّ ما أذني لأولِ عاذلِ *** بصغواءَ في حقٍ ولا عندَ باطلِ

وفيها يستعرض حال قريش وما أكنوا في أنفسهم من العداوة والبغضاء لرسول الله فيقول:
ولما رأيتُ القومَ لا ودَّ عندهم *** وقد قطعوا كل العُرى والوسائلِ
وقد صارحونا بالعـداوةِ والأذى *** وقد طاوعوا أمرَ العدوِّ المزايلِ
وقد حالفوا قوماً علينا أظنّةً *** يعضّونَ غيظاً خلفنا بالأناملِ

ولكن أبا طالب لم يكن بذلك الشخص الذي ترهبه كثرة الأعداء (الأقربون) بعد أن قطعوا الرحم وجاهروا بالبغضاء فقد أعدّ عدّته للمواجهة:
صبرتُ لهم نفسي بسمراءَ سمحةٍ *** وأبيضَ عضبٍ من تراثِ المقاولِ
وأحضرتُ عند البيتِ رهطي وأخوتي *** وأمسكتُ من أثوابهِ بالوصائلِ
قياماً معاً مستقبلين رتاجَه *** لدى حيثُ يقضي نسكَه كلُّ نافلِ

وهذه الأمور التي يقولها أبو طالب لا تقال إلا لأمر عظيم :
وبالبيتِ ركنِ البيتِ من بطنِ مكةٍ *** وباللهِ إن اللهَ ليسَ بغافلِ
وبالحجرِ المسودّ إذ يمسحونه *** إذ اكتنفوه بالضحى والأصائلِ
وموطئُ إبراهيمَ في الـصخرِ رطبة *** على قدميه حافياً غير ناعلِ

ويحلف أبو طالب بكل تلك الشعائر المقدسة من منازل منى إلى رمي الجمرات ولكن على ماذا؟:
كذبتم وبيتِ اللهِ نبزى محمداً *** ولما نطاعــن دونـه ونناضلِ
ونسلمهُ حتى نصرّعَ حوله *** ونذهلُ عن أبنائنا والحلائلِ
وينهضُ قومٌ في الحديدِ إليكم *** نهوضَ الروايا تحت ذاتِ الصلاصلِ

ثم يعدد صفات الرسول التي هي صفات النبوة ويمدحه ويدعو له بالنصر والتأييد من الله والغلبة في دينه:
حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غيرُ طائشٍ *** يوالي إلهاً ليس عنه بغافلِ
فأيّدهُ ربَ العبادِ بنصرهِ *** وأظهر ديناً حقه غير باطلِ
لقد علموا إن ابننا لا مكذّبٌ *** لديهم ولا يعنى بقولِ الأباطلِ

وبقول في شباب المسلمين من بني هاشم وغيرهم الذين نصروا النبي وآزروه في الدعوة إلى الإسلام:  
رجالٌ كرامٌ غير مِيلٍ نماهم *** إلى الغرِّ آباءٌ كرامٌ المخاصلِ
شبابٌ من المطّيبين وهاشمٌ *** كبيضِ السيوفِ بين أيدي الصياقلِ
بضربٍ ترى الفتيان فيه كأنهم *** ضواري أسودٍ فـــوق لحمِ خرادلِ

مدح النبي (ص)
شعر أبي طالب مفعم بتعظيم النبي (ص) والإرشاد إلى دينه الحق. (ولولا خاصّة النبوة وسرّها لما كان مثل أبي طالب ــ وهو شيخ قريش ورئيسها وذو شرفها ــ يمدح أبن أخيه محمداً وهو شاب صغير قد رباه في حجره وهو يتيمه ومكفوله وجارى مجرى أولاده (4) فيقول فيه:
وتلقوا ربيعَ الأبطحينِ محمداً *** على ربوةٍ في رأسِ عيطاءِ عيطلِ
وتأوي إليــه هاشمٌ إن هاشماً *** عرانينَ كعباً آخراً بعد أوّلِ

ويوجه في هذه القصيدة رسالة شديدة اللهجة إلى قريش بقوله:
يقولون: إنا إن قتلنا محمداً *** أقرّت نواصي هاشمٍ بالتذلّلِ
كذبتم وبيتِ اللهِ يثلمُ ركنَه *** ومكةَ والأشعارِ في آلِ معملِ

ومن مدائحه للنبي قصيدته التي يقول فيها:
أنتَ النبي محمدٌ *** قرمٌ أعزُ مسوّدُ
لمسودينَ أكارمٌ *** طابوا وطابَ المولدُ
نعمَ الأرومةِ أصلها *** عمرو الخضمُ الأوحدُ
هشمَ الربيكةَ في الجفــــــــــــــــانِ وعيشُ مكــةَ أنكدُ

وبعد أن يعدد مآثر بني هاشم ومالهم من الفخر على سائر قريش يخاطب النبي ويؤكد له بأنه لن يمسه سوء من قريش ولا غيرها ما دام فيه عرق ينبض فيقول:
أنّى تُضامُ ولم أمُتْ *** وأنا الشجاعُ العربدُ
وبطاحُ مكةَ لا يُرى *** فيها نجيعٌ أسـودُ
وبنو أبيكَ كأنهم *** أسدُ العرينِ تـوقّدُ
ولقد عهدتكَ صادقاً *** في القولِ لا تترددُ

وله أيضاً في مدح النبي:
إذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمفخرٍ *** فعبدُ منافٍ سرُّها وصميمُها
فإن حصلت أشرافُ عبد منافها *** ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمُها
فإن فخرت يوماً فإنّ محمداً *** هو المصطفى من سرِّها وكريمُها

ويقول في حماسته وتفانيه في الدفاع عن رسول الله هذه الأبيات الملحمية:
فبلّغ على الشحناءِ أفناءَ غالبٍ *** لويّاً وتيماً عند نصرِ الكرائمِ
بأنّا سيوفُ اللهِ والمجدُ آله *** إذا كان صوتُ القومِ وحيَ الغمائمِ
ألم تعلموا أن القطيعة مأثمٌ *** وأمرّ بلاءٍ قائمٍ غيرُ حازمِ
وأن سبيلَ الرشدِ يعلمُ في غدٍ *** وأن نعيمَ الدهرِ ليسَ بدائمِ
فلا تسفهن أحلامكم في محمدٍ *** ولا تتبعوا أمرَ الغواةِ الأشائمِ
تمنيتم أن تقتلوه وإنما *** أمانيكم هذي كأحلامِ نائمِ
فإنّكم والله لا تقتلونه *** ولما تروا قطفَ اللحى والغلاصمِ
ولم تبصرِ الأحياءُ منكم ملاحماً *** تحومُ عليها الطيرُ بعد ملاحمِ
وتدعو بأرحامٍ أواصرَ بيننا *** وقد قطعَ الأرحامَ وقعُ الصوارمِ
ونسمو بخيلٍ بعد خيلٍ يحثّها *** إلى الروعِ أبناءُ الكهولِ القماقمِ
من البيضِ مفضالٌ أبيُّ على العدى *** تمكن في الفرعينِ في حيِّ هاشمِ
أمينٌ محبٌّ في العبادِ مسوّمٌ *** بخاتمِ ربٍّ قاهرٍ للخواتمِ
يرى الناس برهاناً عليه وهيبةً *** وما جاهلٌ أمراً كآخرَ عالمِ
نبيٌّ أتاهُ الوحي من عندِ ربهِ *** ومن قال: لا يقرع بها سن نادمِ

مع النجاشي
ولم تقتصر دعوة أبي طالب للأيمان بالنبي (ص) على قريش والعرب فقد دعا النجاشي ملك الحبشة إلى الإيمان بنبوة محمد (ص) وكرر كتبه إليه يدعوه إلى الاسلام وكان قد ختم رسائله بمقطوعتين يقول في الأولى:
أتعلمُ ملك الحبشِ إن محمداً *** نبيٌّ كموسى والمسيحِ بن مريمِ
أتى بالهدى مثلَ الذي أتيا به *** وكلٌ بأمرِ اللهِ يَهدي ويَعصمِ
وإنكمُ تتلونُه في كتابِكم *** بصدقِ حديثٍ لا بصدقٍ الترجّمِ
فلا تجعلوا للهِ ندّاً وأسلموا *** وإن طريقَ الحقِ ليسَ بمُظلمِ

أما المقطوعة الثانية فقد أرسلها عندما كان المسلمون مهاجرين إلى الحبشة بقيادة ابنه جعفر وفيها يوصيه بهم ويحذره من كيد عمرو بن العاص وجماعته الذين أرسلتهم قريش للكيد بالمسلمين والوشاية بهم عند النجاشي يقول أبو طالب:
إلا ليتَ شعري كيف في الناسِ جعفرٌ *** وعمرو وأعداء النبيِّ الأقاربُ
تعلمُ أبيتَ اللعنَ أنكَ ماجدٌ *** كريمٌ فلا يشقى اليكَ المجانبُ
تعلّم بأن الله زادكَ بسطةً *** وأسبابَ خيرٍ كلها بكَ لازبُ

نصرة أصحاب النبي (ص)
ويغضب لأحد الصحابة الأجلاء وقد انهال عليه الكفار بالضرب ففقأوا عينه وأجروا دمائه وهو يدعوهم إلى الإسلام وهذا الصحابي هو عثمان بن مظعون رضي الله عنه فمر أبو طالب ورآه على تلك الحالة من التعذيب فانتفض في وجه القوم وسبهم وفرقهم عنه وفقأ الذي فقأ عينه ثم قال:
أمن تذكّـر دهـراً غيــــــرَ مأمونِ *** أصبــــحتُ مكتئباً تبكي كمحزونِ
أم من تـــــــذكّر أقواماً ذوي سفهٍ *** يغشونَ بالظلمِ من يدعو إلى الدينِ
لا ينتهـونَ عن الفحشاءِ ما أمروا *** والغدرُ فيـهم سبيلٌ غيرِ مأمــــــونِ
ألا يرونَ ـ أذلّ اللهُ جمعهمواـ *** إنا غضبنا لعثمانِ بن مظعونِ
إذ يلطمونَ ـ ولا يخشون ـ مقلته *** طعناً دِراكاً وضرباً غير مرهونِ
فسوفَ نجزيهم إن لم يمت عجلاً *** كيلاً بكيلٍ جزاءً غيرِ مغبونِ
أو ينتهونَ عن الأمرِ الذي وقفوا *** فيه ويرضونَ منّا بعدُ بالدونِ
ونمنعَ الضيمَ من يبغي مضامتنا *** بكل مطّرِدٍ في الكفِ مسنونِ
ومرهفاتٍ كأن الملحَ خالطَها *** يُشفى بها الداء من هامِ المجانينِ
حتى تقرّ رجالٌ لا حلومَ لها *** بعد الصعوبةِ بالأسماحِ واللينِ
أو يؤمنوا بكتابٍ منزلٍ عجبٍ *** على نبيٍّ كموسى أو كذي النونِ
يأتي بأمرٍ جليٍّ غير ذي عوجٍ *** كما تبيّن في آياتِ ياسينِ

وهذا الصحابي الجليل ـ عثمان بن مظعون ـ هو الذي سمى أمير المؤمنين (ع) أحد أبنائه تيّمناً باسمه لجلالته ومكانته في الإسلام ودوره في الدفاع عنه.

ولأبي طالب من أمثال هذا الموقف مواقف كثيرة مشرّفة وقفها في نصرة المسلمين في بداية الدعوة منها موقفه في إجارة أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي الذي كان من أوائل المسلمين وعندما أراد كفار قريش أن يعذبوه استجار بأبي طالب فأجاره وحماه منهم ومنعهم من أخذه.

الوصية
وهكذا يقدر لعم رسول الله (ص) أن يحيا حياة ملؤها البطولة والجهاد في سبيل الله (ص) والمفاداة والذبّ عن رسول الله وتشاء له إرادة الله أن يرحل عن هذه الدنيا في نفس العام الذي توفيت فيه أم المؤمنين السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام) فكان الحزن مضاعفاً في قلب النبي (ص) وسُمِّي ذلك العام بعام الحزن.

لقد ذهب أبو طالب إلى الفردوس الأعلى ومجاورة النبيين والأولياء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ولكنه لم ينس ابن أخيه.

يستشعر أبو طالب بدنو أجله واقتراب وفاته فيبعث بدعوة بني هاشم إلى بيته فلما حضروا كلهم أوصاهم برسول الله واتباع شريعته ومبادئه, وقال لهم: يا بني عبد المطلب, لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد ابن أخي وما اتبعتم أمره فأطيعوا محمداً وصدّقوه واتبعوا أمره تفلحوا وترشدوا. ثم قال:

قل: لعبد العزى أخي وشقيقي *** وبني هاشمٍ جميعاُ عزينا
وصديقي أبي عمارة والأخـــــــــــــــوان طُراُ وأسرتي أجمعينا
فاعلموا بأنني له ناصرٌ *** ومجرٍ بصولتي الخاذلينا

ثم يختص بوصية أخرى نفراً من أبطال بني هاشم الأفذاذ وهم أربعة يقول فيها:
أوصي بنصرِ نبيِّ الخيرِ أربعةً *** أبني علياً وعمَّ الخيرِ عـبّاسا
وحمزةَ الاسدَ المخشيَّ صولته *** وجعفراً فذوداً دونه الناسا
وهاشماً كلها أوصــي بنصرته *** أن يأخذوا دون حربِ القومِ أمراسا
كونوا فداءً لكم أمي وما ولدت *** في نصرِ أحمدَ دونَ الناسِ أتراسا
بكلِ أبيضَ مصقولٌ عوارضُه *** تخالَه في سوادِ الليلِ مقباسا (5)

رثاء أمير المؤمنين (ع)
كانت حياة هذا الرجل العظيم ملؤها الأيمان والجهاد في سبيل الدعوة المحمدية, كما زخرت بالكثير من المواقف المشرفة في نصرة الإسلام باليد واللسان ولم يفتأ طوال حياته الشريفة يدعو إلى الإيمان بالنبي عن طريق الشعر والخطب والنصائح الغر والتي سجلتها له كتب الحديث والسيرة والتاريخ إضافة الى ديوانه الذي قدمنا نماذج منه وقد احتوى على شعر رائق وعلم غزير وحكمة بالغة.

وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: كان أمير المؤمنين (ع) يعجبه أن يروى شعر أبي طالب، وأن يدوَّن، وقال تعلموه وعلموه أولادكم، فانه كان على دين الله وفيه علم كثير.  

وقد رثى أمير المؤمنين (ع) أباه بمراتٍ عديدة منها قوله:
أبا طالبٍ عصمة المستجير *** وغيث المحولِ ونور الظلمْ
لقد هزّ فقدكَ أهلَ الحفاظِ *** فصلّى علـيكَ وليُّ النعمْ
ولقاكَ ربّكَ رضوانَه *** فقد كنتَ للمصطفى خيرَ عمْ

ورثاه بأبيات أخرى هي:
أرقتُ لطيرٍ آخرَ الليلِ غرَّدا *** يذكّرني شجواً عظيماً مُجددا
أبا طالبٍ مأوى الصعاليك ذا الندى *** جواداً إذا ما أصدر الأمر أوردا
فأمستْ قريشٌ يفرحونَ بموتِهِ *** ولستُ أرى حياً يكونُ مُخلّدا
أرادوا أموراً زيَّنتها حلومُهم *** ستورِدهم يوماً مـن الغيِّ مَوردا
ويرجونَ تكذيبَ النبيِّ وقتله *** وأن يُفـترى قدمـــاً عليه ويُجحدا
كذبتم وبيتِ اللهِ حتى نذيقكم *** صدورَ العوالي والحسامَ المهنّدا
فإما تبيدونا وإما نبيدكم *** وإما تروا سلم العشيرة أرشدا
وإلا فإنَّ الحي دون محمدٍ *** بني هاشمٍ خير البرية محتدا

أبو طالب (عليه السلام) في أقوال المعصومين
ونرى من الضروري أن نذكر ما جاء في حق أبي طالب من روايات على لسان المعصومين (ع) مما يؤكد إيمانه العميق بالله ودرجته الرفيعة في الإسلام, فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) عن آبائه عن أمير المؤمنين (ع) قوله: قال رسول الله (ص) هبط عليّ جبرائيل فقال لي: يا محمد: إن الله عز وجل مشفعك إلى ستة: بطن حملك آمنة بنت وهب, وصلب أنزلك عبد الله, وحجر كفلك أبو طالب, وبيت آواك عبد المطلب, وأخ لك في الجاهلية قيل يا رسول الله وما كان فعله؟ قال: كان سخياً يطعم الطعام ويجود بالنواء, وثدي أرضعك حليمة بنت أبي ذؤيب. (6)

كما ورد عن الإمام الصادق (ع) أيضاً قوله: أوحى الله تعالى إلى النبي (ص): (أني حرمت النار على صلب أنزلك وبطن حملك وحجر كفلك وبيت آواك). وقد وردت هذه الرواية في كثير من المصادر وبألفاظ مختلفة وبمضمون واحد. (7)

وهناك رواية أخرى ذكرتها المصادر وهي عن أمير المؤمنين أنه قال: والذي بعث محمداً بالحق إن نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلق إلا خمسة أنوار: نور محمد ونوري ونور فاطمة ونور الحسن ونور الحسين ومن ولده من الأئمة لأن نوره من نورنا الذي خلق الله تعالى من قبل أن يخلق الله آدم بألفي عام. (8)

كما جاء في المصادر عن الإمام زين العابدين وقد سئل عن إيمان أبي طالب فقال: وا عجباه؟ أتطعنون على أبي طالب أو على رسول الله؟ وإن الله تعالى نهى رسول الله أن يقر مسلمة على نكاح كافر في غير آية من القرآن وقد كانت فاطمة بنت أسد من المؤمنات السابقات إلى الإسلام ولا يشك أحد في ذلك ولم تزل تحت أبي طالب إلى أن مات). (9)

وجاء عن الإمام الباقر (ع) قوله: لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان وإيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه على إيمانهم ثم قال: ألم تعلموا أن أمير المؤمنين كان يأمر بأن يحج عن عبد الله أبي النبي وعن أبيه أبي طالب في حياته ثم أوصى في وصيته في الحج عنهم بعد مماته.     

وقال رجل للإمام الصادق (ع): سيدي إن الناس يقولون: إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، فقال (ع): إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان، وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان لرجج إيمان أبي طالب على إيمانهم.

وكتب أبان بن محمد للإمام الرضا (ع): جعلت فداك إني شككت في إيمان أبي طالب. فكتب له الإمام جواباً نصه: بسم الله الرحمن الرحيم ومن يبتغ عير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى. إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار.

محمد طاهر الصفار

.....................................................................
1ــ ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 14 ص 64  
2ــ شرح النهج ج 1 ص 29
3ــ عبد الواحد السفاقسي السيرة النبوية ج 1 ص 88
4ــ شرح النهج ج 14 ص 66
5ــ ابن الجوزي/ تذكرة الخواص ص 8 , الحلبي/ السيرة الحلبية ج 1 ص 372 , السيوطي الخصائص الكبرى ج 1 ص 87
6ــ السيوطي / التعظيم والمنة ص 25 , ابن أبي الحديد شرح النهج ج 14 ص 67
7ــ شمس الدين الموسوي / إيمان أبي طالب ص 49
8ــ  كنز الفوائد/ الكراجكي ص 80 , تفسير أبي الفتوح ج 4 ص 211 , الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة , علي خان المدني ص50 , منية الراغب في إيمان أبي طالب / الشيخ محمد رضا الطبسي النجفي  ص 28 , الغدير / الشيخ الأميني ج 7 ص 387
9ــ السيد فخار بن معد الحائري / الحجة على الذاهب في تكفير أبي طالب ص 24

المناسبات