لقد تحدث القرآن عن زمن النزول وكيفيته، فأوضح ان القرآن نزل في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك، جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ...﴾.
ثم بين الليلة التي نزل فيها القرآن، فقال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (1). وبين هذه الليلة المباركة بقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾.
وهكذا يوضح القرآن انه نزل ليلا في ليلة القدر على النبي الامين محمد (صلى الله عليه واله) في شهر رمضان المبارك. وفي موضع آخر تحدث عن كيفية نزول القرآن وتنزيله من قبل اللّه تعالى على النبي محمد (صلى الله عليه واله)، قال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (2).
وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ (3)، وقال تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا﴾ (4) وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ (5).
وحصيلة ما يستفاد من هذه الآيات المباركة:
1- ان القرآن نزل وحيا من رب العزة، وبصورة قراءة، نزل به جبريل على النبي محمد (صلى الله عليه واله) وليس مكتوبا بصحف او الواح، كما نزلت الكتب الالهية الاخرى.
2- ان النزول بدا في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك، كما نزلت الكتب الالهية التوراة والانجيل والزبور في هذا الشهر المبارك، كما تفيد الروايات ذلك.
3- ان القرآن نزل مفرقا على شكل آيات او سور احيانا، ولم ينزل بصورته الكاملة على النبي محمد (صلى الله عليه واله) دفعة واحدة، ويتضح ذلك من قوله تعالى: ﴿لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ﴾ و ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ اي بيناه وفرقناه تفريقا، كما يتضح ذلك من رده على الكافرين بالاية 32 من سورة الفرقان، الذين طالبوا بانزاله جملة واحدة على النبي محمد (صلى الله عليه واله).
وما جاء في الفقرة الثالثة آنفا، هو ما يذهب اليه جمع من العلماء والمحققين، وبه قال الشيخ المفيد. غير ان هناك من يذهب الى ان القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا، ثم انزله اللّه تعالى عن طريق جبرئيل على نبيه محمد (صلى الله عليه واله) مفرقا. وقد اخرج الحاكم والبيهقي والنسائي وابن ابي شيبة وابن ابي حاتم والطبراني والبزار وابن مردويه عن ابن عباس بعدة طرق، اخرجوا ذلك (6).
ومن علماء الشيعة يذهب الى هذا القول الشيخ الصدوق ايضا وهو من اعاظم علماء الشيعة الامامية، وقد رد الشيخ المفيد هذا الراي، وناقش الصدوق، ولكي يتضح الرايان فلنذكرهما معا:
قال الشيخ الصدوق: (ان القرآن نزل في شهر رمضان، في ليلة القدر جملة واحدة الى البيت المعمور، ثم انزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة) (7).
وقد رد الشيخ المفيد على هذا الراي بقوله: (الذي ذهب اليه ابو جعفر في هذا الباب أصله حديث واحد، لا يوجب علما ولا عملا ونزول القرآن على الاسباب الحادثة، حالا فحالا يدل على خلاف ما تضمنه الحديث. وذلك انه قد تضمن حكم ما حدث، وذكر ما جرى، وذلك لا يكون على الحقيقة الا لحدوثه عند السبب. ثم استشهد بيات كثيرة مثل: (قد سمع اللّه قول التي تجادلك في زوجها) وكثير من امثال ذلك، بالإضافة الى استعمال القرآن صيغة الماضي في وقوع الحوادث التي وقعت في عهد النزول على النبي (صلى الله عليه واله) بعد حدوثها، فكيف يستعمل صيغة الماضي قبل وقوع الحوادث التي وقعت في المدينة في حال التسليم بنزوله كاملا في مكة ليلة القدر؟ ثم قال: وقد يجوز في الخبر الوارد بنزول القرآن جملة في ليلة القدر، انه نزل جملة منه في ليلة القدر، ثم تلاه ما نزل منه الى وفاة النبي (صلى الله عليه واله). فاما ان يكون نزل باسره وجميعه في ليلة القدر، فهو بعيد مما يقتضيه ظاهر القرآن، والمتواتر من الاخبار، واجماع العلماء على اختلافهم في الاراء (8).
اول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل منه:
ان اول ما نزل من القرآن هو قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ * اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ فهذه الآيات الخمس بعد البسملة، هي اول ما نزل من القرآن على النبي (صلى الله عليه واله) في غار حراء. اما الآيات الاخرى من سورة العلق فقد نزلت بعد فترة من الزمن ثم وضعت في موضعها الذي هي فيه من السورة، غير ان هناك آراء وروايات تتحدث عن ان اول ما نزل من القرآن هو سورة المدثر، واخرى تذهب الى ان اول ما نزل من القرآن هو سورة الفاتحة. واختار الطوسي والطباطبائي في تفسيريهما: ان اول ما نزل من القرآن، هو الآيات الخمس من سورة العلق.
وكما اختلف في اول ما نزل من القرآن، اختلف كذلك في آخر ما نزل منه، فقيل هي سورة براءة، وقيل سورة: إذا جاء نصر اللّه والفتح، وقيل سورة المائدة، وقيل غير ذلك.
ويرجح علماء الشيعة الامامية ان آخر ما نزل من القرآن هو قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾.
لماذا نزل القرآن مفرقا: اثار المشركون شبهة ملخصها: ان نزول القرآن مفرقا يعني ان النبي (صلى الله عليه واله) ليس مرسلا بدين من اللّه سبحانه، اذ لو كان وحيا الهيا على زعمهم لنزل دينا كاملا مرة واحدة، ونزوله مفرقا يعني انه قول البشر يتأمل نصوصه فياتي بها.
فرد عليهم القرآن، وبين الحكمة من النزول مفرقا، فقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ (9).
ويمكن ان يكون سبب هذه الشبهة ما هو معروف من اخبار الديانات السابقة، ان الكتب انزلت مكتوبة جملة واحدة، وكيفية نزول القرآن تختلف عن كيفية نزول التوراة والانجيل والزبور، فالقرآن نزل قراءة ومفرقا، اما تلك الكتب فقد نزلت مكتوبة جملة واحدة وبصيغتها الكاملة. وقد ذكر القرآن ذلك، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ (10). وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ۖ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ (11).
وهكذا يوضح القرآن ان التوراة انزلت مكتوبة بشكلها الكامل في الالواح، وبهذه الصيغة تلقاها النبي موسى (عليه السلام). وقد بين القرآن الحكمة من نزوله مفرقا في الآية (32) من سورة الفرقان، كما وبين ذلك في الآية (145) من سورة الاعراف.
وملخص الحكمة في اللايتين هو:
1- لنثبت به فؤادك.
2- لتقرأه على الناس على مكث.
فالحكمة اذن هي ان استمرار نزول الوحي، وتواصل نزول القرآن ومواصلة النبي بالقرآن، يثبت فؤاد النبي (صلى الله عليه واله) ويقوي موقفه الجهادي في مواجهة التحديات اولا، وثانيا ان الرسالة الاسلامية رسالة تغيير شامل، وتسعى لبناء مجتمع ودولة وحضارة، وتثبيت قانون ونظام. والتغيير والبناء يقتضي التدرج في التبليغ لمواصلة عملية الهدم والبناء، ولترسخ الدعوة في النفوس، وتستوعب العقيدة والاحكام والمفاهيم بشكل تدريجي، وليستقبل الناس التغيير على مراحل، وليتفاعلوا مع مبادئ القرآن، وتتهيأ النفوس لتحمل التكاليف.
وهكذا يكون العامل الزمني والنزول التدريجي قضية ضرورية للنبي الاكرم (صلى الله عليه واله) وللمجتمع كما يوضح القرآن ذلك. ولعل البحث يدعونا الى ان نذكر ان الرسول محمد (صلى الله عليه واله) كان نبيا قبل ان يبعث رسولا، اي قبل ان ينزل عليه القرآن في غار حراء، وهذا يعني انه (صلى الله عليه واله) كان يتلقى تعاليم قرآنية بمعانيها ودلالاتها ليعد ويهيا لمهمة تلقي القرآن، وحمل الرسالة الكبرى. وقد ذهبت بعض الآراء الى ان النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) تلقى وحيا الاركان الاساسية والخطوط الكبرى لأمهات الكتاب جملة واحدة، ثم نزل القرآن بأكمله مفرقا عبر سني التنزيل.
المصدر: القرآن في مدرسة اهل البيت / السيد هاشم الموسوي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الدخان، الآية 3 و4.
2- سورة الشورى، الآية 51.
3- سورة القيامة، الآية 18.
4- سورة الاسراء، الآية 106.
5- سورة الفرقان، الآية 32.
6- السيوطي، الاتقان في علوم القرآن: 1/116 117.
7- تصحيح اعتقاد الصدوق: ص 232
8- تصحيح اعتقاد الصدوق: ص 233.
9- سورة الفرقان، الآية 32.
10- سورة الاعراف، الآية 145.
11- سورة الاعراف، الآية 154.