logo-img
السیاسات و الشروط
post-img

معركة ذات السلاسل

في هذا الشهر أو جمادي الأولى سنة ٨ هـ وقعت معركة ذات السلاسل. (1) وذلك أن أعرابيّاً جاء إلى النبيّ (ص) فجثا بين يديه وقال له (ص): جئتك لأنصح لك قال (ص): وما نصيحتك؟ قال: قوم من العرب قد اجتمعوا بوادي الرمل وعملوا على أن يبيّتوك بالمدينة، ووصفهم له. وفي رواية جاء جبرئيل فأخبر النبي (ص).

فأمر النبيّ (ص) أن ينادى بالصلوة جامعة، فاجتمع المسلمون فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال (ص): «أيّها الناس إنّ هذا عدوّ الله وعدوّكم قد عمل على تبييتكم، فمن لهم»؟ فقام جماعة من أهل الصُفّة، فقالوا: نحن نخرج إليهم يا رسول الله، فولِّ علينا من شئت فأقرع بينهم، فخرجت القرعة على ثمانين رجلاً منهم ومن غيرهم، فاستدعى أبا بكر فقال (ص) له: «خــذ الراية وامض إلى بني سُليم فإنّهم قريب من الحَرّة» فمضى أبو بكر ومعه القوم حتّى قارب أرضهم وكانت كثيرة الحجارة والشجر وهم ببطن الوادي والمنحدَر إليه صعبٌ.

فلما صار أبو بكر إلى الوادي وأراد الإنحدار خرجوا إليه، فهزموه وقتلوا من المسلمين جمعاً كثيراً وانهزم أبو بكر من القوم. فلمّا وردوا على النبيّ (ص) عقدَ لعمر بن الخطّاب وبعثه إليهم فكمنوا له تحت الحجارة والشجر فلمّا ذهب ليهبط خرجوا إليه فهزموه.
فساء رسول الله (ص) ذلك، فقال له عمرو بن العاص إبعثنى يا رسول الله إليهم فإنّ الحرب خدعة ولعَلّي أخدعهم. فأنفذه مع جماعة منهم أبو بكر وعمر فلمّا صار إلى الوادي خرجوا إليه فهزموه وقتلوا من أصحابه جماعة.

ومكث رسول الله (ص) أيّاماً يدعو عليهم ثمّ دعا أمير المؤمنين عـلـيّ بـن أبي طالب (ع) فعقد له، ثمّ قال (ص): «أرسلتُه كرَاراً غير فرّار» ورفع يديه إلى السماء وقال: «أللّهم إن كنت تعلم أنّي رسولك فاحفظني فيه وافعل به وافعل»، فدعا له ما شاء الله.
وخرج عليّ بن أبي طالب (ع) وخرج رسول الله (ص) ليشيّعه وبلغ معه إلى مسجد الأحزاب وعليّ (ع) على فرس أشقر مهلوب، علیه بردان يمانيان، وفي يده قناة خطية، فشيّعه رسول الله (ص) وأنفذ معه فيمن أنفذ أبا بكر وعمر وعمرو بن العاص فسار بهم (ع) نحو العراق متنكّبا للطريق حتّى ظنّوا أنه يريد بهم غير ذلك الوجه، ثم أخذ بهم على محجّة غامضة فسار بهم حتّى استقبل الوادي من فمه، وكان يسير الليل ويكمن النهار.
فلمّا قرب من الوادي أمر أصحابه أن يعكموا الخيل، ووقّفهم مكاناً وقال: «لا تبرحوا»، وانتبذ أمامهم وأقام ناحية منهم.

فلمّا رأى عمرو بن العاص ما صنع (ع) لم يشكّ أنّ الفتح يكون له (ع)، فحسده فقال لأبي بكر: أنا أعلم بهذه البلاد من عليّ، وفيها ما هو أشدّ علينا من بني سُليم، وهي الضباع والذئاب، وإن خرجتْ علينا خشيتُ أن تقطّعنا، فكلَّمْه يخلُ عنّا نعلو الوادي. وفي رواية قال عمر: أنزلنا هذا الغلام في واد كثير الحيّات والهوامّ والسباع، إمّا سبع يأكلنا أو يأكل دوابّنا، وإمّا حيّات تعقرنا وتعقر دوابّنا، وإمّا يعلم بنا عدوّنا فيأتينا ويقتلنا. فانطلق أبو بكر فكلّمه فأطال فلم يجبه أمير المؤمنين (ع) حرفاً واحداً، فرجع إليهم فقال: لا والله ما أجابني حرفاً. فقال عمرو بن العاص لعـمـر بـن الخطاب: أنت أقوى عليه، فانطلق عمر فخاطبه فصنع به مثل ما صنع بأبي بكر، فرجع إليهم فأخبرهم أنه لم يجبه. فقال عمرو بن العاص: إنَّه لا ينبغي أن نضيّع أنفسنا، انطلقوا بنا نعلو الوادي، فقال له المسلمون: لا والله لا نفعل، أمرَنا رسول الله (ص) أن نسمع لعليّ، ونطيع، فنترك أمره ونسمع لك ونطيع؟!

فلم يزالوا كذلك حتّى أحسّ أمير المؤمنين (ع) الفجرَ فكبس القومَ وهم غارّون أي غافلون - فأمكنه الله منهم ونزلت على النبيّ (ص) «وَالْعادياتِ ضَبْحاً ...» إلى آخر السورة، فبشّر النبيّ (ص) أصحابه بالفتح وأمرهم أن يستقبلوا أمير المؤمنين (ع) فاستقبلوه والنبي (ص) يقدمهم فقاموا له صفّين، فلمّا بصر (ع) بالنبيّ (ص) ترجّل عن فرسه فقال له النبي (ص): «إركب فإنّ الله ورسوله عنك راضيان»، فبكى أمير المؤمنين (ع) فرحاً فقال له النبيّ (ص): «يا عليّ لولا أنني أشفق أن تقول فيك طوائف من أمّتى ما قالت النصارى في المسيح عيسى بن مريم (ع) لقلت فيك اليوم مقاّ لا تمرّ بملأٍ من الناس إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك». (2)

وقال السيد الحميري رحمه الله:
وفي ذات السلاسل من سليم
غداة أتاهم الموت المبير
وقد هزموا أبا حفص وعمراً
وصاحبه مراراً فاستطيروا
وقد قتلوا من الأنصار رهطاً
فحل النذر أو وجبت نذور
أذاد الموت مشيخة ضخاماً
جحاجحة يسدّ بها الثغور

1-  التنبيه والإشراف: 231. الطبقات الکبری: 131/2. شرح مسلم: 153. نيل الأوطار: 324/1. عون المعبود: 365/1.

2- الإرشاد: 164/1. مناقب آل أبي طالب (ع):166/3. تفسير فرات الكوفي: 591. بحار الأنوار: 90/21 - 60، و 92/41.

المناسبات