في هذا اليوم (۱) -وعلى نقل في يوم ۲۸ صفر (۲)- طلب الرسول (ص) دواة وقرطاساً، ليكتب لأمّته كتاباً يبيّن فيه خلافة أمير المؤمنين (ع) بعد وفاته بلا فصل، ولكن عمر بن الخطّاب حال دون ذلك وتجاسر على النبي (ص) بقوله «إنّ الرجل ليهجر»! وقد تصرّفوا فيه فنقلوه بالمعنی، لأنّ لفظه الثابت: «إنّ الرجل ليهجر» لكنهم ذكروا أنّه قال: «إنّ النبيّ قد غلب عليه الوجع» ونظائر ذلك تهذيباً للعبارة، واتّقاء فظاعتها. (۳)
أقول: ولمّا حان منه (ص) الخفوق والأفول، واشتكي شكواه التي توفّى فيها اجتمع عنده المهاجرون والأنصار وهو في أخريات أيّام حياته ظاعناً عن الدنيا مقبلاً إلى لقاء ربّه مستريحاً عن تعب هذه الدار الفانية راحلاً إلى النعيم الباقي، قد حفَّ بالملائكة الأبرار، واستعدَّ للقاء الله سبحانه. فنظر إلى أصحابه وأهله نظرة رحيمة يشاهد ما سوف يقع من سماسرة الأهواء ومزلاّت الأقدام وزلل الآراء، ويرى ما يصيب الأمّة الإسلامية من مضلاّت الفتن كقطع الليل المظلم، ومن الإنحراف الفكري الذي سيقع في الإسلام، والفرق تقع بين المسلمين، فأراد أن يكتب لهم كتاباً يحفظهم من العثرات ويعصمهم من الفتن ويقيهم عن ظلمات الهرج والمرج، فقال (ص): إيتوني بدواة وبيضاء أكتب لكم، ما لن تضلّوا بعدي أبداً.
فعندئذ أطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً أشياعه، فألفاهم لدعوته مستجيبين، ولهتافه ملبّين، فوسوس في صدورهم ونطق بألسنتهم، فأخرجهم عن الطريق القويم والصراط المستقيم، فقال قائلهم: إنّ رسول الله يهجر - والعياذ بالله - حسبنا کتاب الله، فكثر اللغط وطال الحوار في البيت، واختلفوا فيما بينهم، فريق يقول: القول ما قال عمر وفريق آخر يقول: ائتوا بالدواة والبيضاء، فعند ذلك أعرض النبيّ (ص) عنهم بوجهه الكريم قائلاً: «قوموا عنّى».
فاختلفوا وكثر اللغط وقال (ص): قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع. إنّ وقاحة التصرف وتوجيه الإهانة إلى سيّد المرسلين ومنشأ جميع الفيوضات والخيرات، وأصل العترة الطاهرة ورأسها خاتم الأنبياء (ص) واتّهامه -والعياذ بالله- بالهذيان يكون قائله قد تنكّر للنصوص القرآنية الصريحة والآيات الكريمة:
۱. وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (۳) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى. (٤)
۲. أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ. (٥)
٣. وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. (٦)
٤. وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. (٧)
فقائل هذا القول باتّهامه رسول الله (ص) وردّ طلبه في إحضار الكتاب والدواة وبثّ الإختلاف وإيجاد اللغط يشمل فعله أيضاً:
١. وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. (٨)
۲. إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا. (٩)
يتبيّن من ذلك أنّ القائل جاهل بأحكام الشريعة: كلّ الناس أفقه من عمر حتّى المخدّرات.
ذلك لأنّ جزء يسير من الشريعة جاء ذكرها في كتاب الله، كما أنّ هذا المقدار أيضاً يشمل الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والعامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد والمجمل وأمثالها.
وإنّ الآيات الكريمة تؤكّد على «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَ مِنْهُمْ». (١٠)
إنّ الكتاب الحقيقيّ هو في صدور أهل العلم، وإنّ العلم الحقيقيّ هو عند أهل البيت (ع) «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ». (١١)
لذلك قال سيّدنا ومولانا أمیرالمؤمنین (ع): «أنا كتاب الله الناطق وهذا هو الصامت»، وإذا كان كتاب الله يكفي فلماذا كان رسول الله (ص) يقول مراراً وتكراراً: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً.
وهذا الحديث من الأحاديث المسلّمة عند الفريقين، حيث ورد في الكتب المعتبرة بسبع عبارات و۷۲ طريقاً. وأجوبة أخرى من أرادها فليطلبها من مظانّها.
ولماذا عندما حضرت أبا بكر الوفاة وأراد أن يوصي لم يحل أحد بينه وبين الكتاب والدواة ولم يقل أحد حسبنا کتاب الله؟
وربّ قائل يقول لماذا لم يطلب الرسول الكريم (ص) بعد أيّام الكتاب والدواة مرّة أخرى؟ نقول في جوابه: الذي حال بين الرسول الكريم (ص) وبين ما أراد في المرّة الأولى كان سيكرّر فعلته في المرّة الثانية، وقد يقول قائل: ربّما لم تكن الوصية مهمة، نقول: قد قالها عمر مراراً أنّه لم يشأ أن يوصي الرسول الكريم (ص) بالخلافة لعليّ بن أبي طالب (ع). (١٢)
وقد ورد اتّهام عمر للنبيّ (ص) وهو أشرف المخلوقات وسيّد الكائنات وخاتم النبيّين بالهَجر كما ثبت بالتواتر الثابت في العديد من الكتب ومصادر المؤالف والمخالف وأضحى ممّا لا يمكن إنكاره. (١٣) ولقد وردَ ذلك في كتب الفريقين بعبارات مختلفة.
لايخفى على العاقل المحقّق من أنّ قائل تلك العبارات لطالماً ذكر بعد تلك الحادثة ولأشخاص عديدين من أنّه إنّما قال ذلك لعلمه بأنّ النبي (ص) يريد التصريح بالخلافة والولاية لعليّ (ع)، لذلك بادرَ إلى منع إيصال القلم والدواة إليه (ص).
١. وهذا مستفاد من قول ابن عبّاس: يوم الخميس وما يوم الخميس، الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بین رسول الله (ص) و بین کتابه». راجع مصادر هذا الكلام ضمن البحث عن .. (وإنّ الرجل ليهجر).
٢. کتاب سليم بن قيس: ٧٩٤/٢. غایة المرام: ٩٥/٦، ٩٧. مکاتیب الرسول (ص): ٦٩٧/٣ ، ٦٩٩. السقيفة وفدك للجوهري: ٧٦. الطبقات الکبری: ٢٤٥/٢ ، ٢٤٣. شرح نهج البلاغه: ٥١/٦.
٣. التصّ والإجتهاد: ١٥٠. المراجعات: ٣٥٣. ماذا تقضون: ٤٩٤.
٤. النجم: ٤-٣.
٥. النساء: ٥٩.
٦. الحشر: ٧.
٧. الأحزاب: ٣٦.
٨. النساء: ١١٥.
٩. الأحزاب: ٥٧.
١٠. النساء: ۸۳.
١١.العنكبوت: ٤٩.
١٢. مکاتیب الرسول (ص): ٧١٢/٣ - ٧٠٣، ٧٢٩. بحار الأنوار: ٦٣٩/٢٩، و ٢٤٤/٣٠، ٥٥٦ - ٥٥٤ و ١٥٦/٣١، و ١٥٦/٣٨. کشف الیقین: ٤٧١. الصراط المستقيم: ٥/٣. غایة المرام: ٢٤٢/١ و ٩٤/٦ - ٩٢. شرح نهج البلاغة: ٢١/١٢، ٧٩-٧٨.
١٣. الطرائف: ٤٣٧. بحار الأنوار: ٤٧٤/٢٢، ٥٢٩/٣٠. حقّ اليقين: ص ۲۲۰. ماذا تقضون: ٤٩٥. الأربعين ٥٣٨. الصراط المستقیم: ٧/٣.