في هذا اليوم الأربعاء سنة ٦٣ هـ الشريفة حدثت وقعة الحَرّة، فمعنى قولهم: لثلاث بقين من ذي الحجّة هو ٢٧ منه، أو ٢٨. (١)
وكان سبب ثورتهم هو ذهاب عدّة منهم إلى الشام بقيادة عبد الله بن حنظلة، عندما رأى استهتار يزيد بالدين والأخلاق وجميع القيم والمقدسات، إضافة إلى ظلمه وجوره وفجوره وعبثه وشربه الخمر جهراً، والأدهى من ذلك قتله ريحانة رسول الله وسيد شباب أهل الجنة، أعلنوا نقضهم لبيعته وولّوا عليهم عبد الله بن حنظلة وعبد الله بن مطيع العدوي وطردوا عامل يزيد على المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان وحصروا بني أمية في دار مروان فأرسل إليهم يزيد، المجرم مسلم بن عقبة المري فجرت معركة ضارية كانت الغلبة فيها لجيش الشام وقتل عبد الله بن حنظلة ومعه أولاده الثمانية ثم دخل مسلم بن عقبة بجيشه إلى المدينة المنورة فارتكبوا فيها من الجرائم ما يندى له جبين الإنسانية.
وقد قضت هذه الواقعة على البقية القليلة من آل أبي طالب وبني هاشم في المدينة فنكأت جراح الإمام (ع) من جديد وهي لم تندمل، وتجدّدت أحزانه، والجدير بالذكر أن هذه الواقعة جرت سنة (٦٢ هـ) أي بعد سنة واحدة من واقعة الطف.
يقول المسعودي في مروج الذهب: قُتل في تلك المعركة خلق كثير من الناس من بني هاشم وقريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس، فممن قتل من آل أبي طالب: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وجعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب، ومن بني هاشم من غير آل أبي طالب: نوفل بن الحرث بن عبد المطلب والعباس بن عتبة بن أبي لهب وأكثر من تسعين رجلاً من قريش ومثلهم من الأنصار وأربعة آلاف من سائر الناس ممن أدركهم الاحصاء دون من لم يُعرف.
وقال ابن قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسة: إن عدد من قُتل من أبناء المهاجرين والأنصار والوجوه بلغ ألفاً وسبعمائة ومن سائر الناس عشرة آلاف سوى النساء والأطفال!! ...
ثم ينقل ابن قتيبة إحدى الصور عن تلك الجرائم الوحشية التي قام بها الجيش الأموي في مدينة رسول الله (ص) فيقول:
دخل رجل من جند مسلم بن عقبة على امرأة نفساء من الأنصار ومعها صبي لها فقال: هل من مال؟ فقالت: لا والله ما تركوا لنا شيئاً. فقال: والله لتخرجن إليَّ شيئاً أو لأقتلنك وصبيك هذا، فقالت له: ويحك إنه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول الله (ص) فأخذ برجل الصبي والثدي في فمه فجذبه من حجرها وضرب به الحائط فانتثر دماغه على الأرض!!
وقد أباح (مجرم) بن عقبة المدينة ثلاثة أيام ولم يبق بعد هذه الواقعة بدري! ثم أمِروا بالبيعة ليزيد على أنهم عبيد له، إن شاء استرق وإن شاء أعتق فبايعوه على ذلك وأموالهم مسلوبة ورحالهم منهوبة ودماؤهم مسفوكة ونساؤهم مهتوكة وبعث (مجرم بن عقبة) برؤوس أهل المدينة إلى يزيد. وقد ذكر جميع المؤرخين هذه الواقعة.
موقف الإمام علي بن الحسين (ع) من الواقعة
كل هذه الأحداث الفظيعة شاهدها الإمام زين العابدين (ع) كانت تزيد من جراحه، وكان يتلقّاها بقلب كسير وروح متألّمة، تلك الروح الكبيرة والرحيمة حتى بمن نصب له ولأبيه ولجدّه العداء، فعندما خرج مروان بن الحكم وبنو أمية إلى الشام تركوا عيالهم في المدينة فكلم مروان عبد الله بن عمر بأن يترك عياله وحرمه عنده فأبى عليه، فكلم الإمام علي بن الحسين (ع) فوافق على ذلك.
أي روح أعظم من هذه الروح؟ وأي قلب أكبر من هذا القلب؟
هذه هي أخلاق الأنبياء التي ورثها الإمام زين العابدين (ع)، لقد كفل عوائل بني أمية الذين سبوا عماته وأخواته ونساءه من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام وبقيت عائلة مروان في رعايته إلى أن انتهت المعركة وسلم علي بن الحسين (ع) وأهل بيته من شر مسلم بن عقبة وسلم كل من التجأ إلى بيته من أهل المدينة.
وقد اشتهر بين الرواة والمؤرخين إن الذين انضموا إلى علي بن الحسين يزيدون على أربعمائة عائلة، وجاء في ربيع الأبرار للزمخشري: إنه لما أرسل يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة لقتال أهل المدينة واستباحتها كفل الإمام زين العابدين أربعمائة امرأة مع أولادهن وحشمهن وضمّهن إلى عياله وقام بنفقتهن وإطعامهن إلى أن خرج جيش ابن عقبة من المدينة.
وقال الطبري: إن يزيد أوصى مسلم بن عقبة بعلي بن الحسين.
ولم يكن يزيد بذلك البعيد عن دماء أهل البيت (ع) أو مراعياً لهم حرمة النبي حتى يوصي بالإمام زين العابدين بل لأنه أحس بوطأة جريمته النكراء التي ارتكبها في كربلاء بحق الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه وأدرك حجم الأخطار التي أصبحت تهدد عرشه من جميع الجهات، والأصوات التي تنادي يا لثارات الحسين تتعالى في جميع الأرجاء وتجد ترحيباً وتجاوباً من الجميع. وفيما كان يزيد بن معاوية يتعقب الثائرين في المدينة كان التوابون في الكوفة منذ أن قتل الحسين يعدون العدّة للثورة على السلطة الأموية وقد بدأوا يحسّون بمرارة تلك الفاجعة حينما وقف الإمام زين العابدين وخطب في جموعهم تلك الخطب البليغة.
محمد طاهر الصفار
١. بحارالأنوار:١٢٥/١٨. قلائد النحور: ج ذي الحجة ٤٤٨. فيض العلام: ١٣٢. تاريخ خليفة بن خياط: ١٩٢.